سلسلة من الطوابير الممتدة في الأفق البعيد تحيطني طوال الطريق.. سيارات وشاحنات تناضل وتجاهد في سبيل شربة تروي ظمأها الطويل من سائل ملعون وكافر. نعم هو نضال والتزام وانتظام يومي لو اقتدت به الحكومة لبلغنا درجة متقدمة من التحضر والإنتاج.
ثمة تساؤلات وهواجس تنازع الذهن المشتت ما بين التحديق إلى الأمام وبين التفكير في طبيعة هذا الواقع المأساوي، وكيف لنا أن نتجاوزه والحكومة في غيبتها الكبرى لا تحس بما يحس به الإنسان اليمني ولا تعاني ما يعانيه؟! بل، كيف لنا أن نشفى من مرض ونحن نرفض الاعتراف بأننا مرضى من أساسه؟!. وكيف لنا أن نحدد طريق النجاة ونحن أيضاً في الأساس عميان؟!.
لا شيء هنا سوى اللعنات تتصاعد في الطرقات والشوارع، والشياطين تتنزل لتزرع الفتنة بين الناس البسطاء.. لا شيء سوى التساؤلات، كم من الخطايا تولد هنا، وكم من الأديان تعبد، وكم من الآفات تفتك بالشعب؟! وفي المقابل لا أحد هنا من الزعماء السياسيين أو من الدعاة المضللين والزائفين والمنافقين.. لا أحد، البتة، يرفع المصاحف لهؤلاء المقهورين كي يَهدَأ روعهم قليلاً، ويستمرون في الإصغاء إلى وعَّاظ السلاطين والكهان ممن يلوِّثون عقولهم ومشاعرهم.
لماذا لا يصنع هؤلاء مثل (سقراط) حين يقرر أنه مثل أمه؟ فهي إن كانت تُخرج الأطفال من الأرحام فهو يخرج الأفكار من العقول التي يقترب منها ويستفزها في أسواق الحمير والبغال والبقر، ويخالط فيها الناس جميعاً، عقلاء ومعتوهين ومجانين، ليستمتع بلذة المعرفة والبحث والتأمل.. لماذا يتأفف هؤلاء الساسة من مخالطة العوام والنزول إلى ميادينهم وأسواقهم ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم؟.. إنه الإيمان بتضخٌّم الذات وحياتها اللاهوتية المحاطة بأسوار من الأوهام والخزعبلات والقداسات.
لقد بلغ الاكتئاب بالناس في هذا الوطن اللعنة مبلغه، واتسعت دائرة الأحزان والآلام، وفقدوا اللذة وحب النساء، ومع هذا كله يطلُّ علينا رئيس الوزراء ليتحدث عن نفسه بـ(القوي) وهو أوهن من (كذبة إبريل).. ويتحدث عن حكومته بأساليب التهاويل والمبالغات، فإذا هي مثالية وصانعة الحريات والمعجزات، بل إنها ملهمة الشعراء والأدباء ومصدر قصص الحب والعشق والغناء والثراء والإبداع في جميع مجالات الحياة. إنه شعب محظوظ بحكومته الإنسانية الباكية والمبكية في تصرفاتها وأقوالها وأحاسيسها.
كم صفعات يحتاجها رأسي حتى يؤمن بالحكومة الفلتة؟ وكم مرات أسكب فيها الماء البارد على جسدي حتى أحس بخيرات ومنجزات هذه الحكومة؟ وكم كتاب من كتب الفلسفة والمنطق والفكر أحتاج لقراءته حتى أفقه ما يقوله الرجل وهو يتحدث عن نفسه وعن حكومته؟ أو أصدق أن هذه الحكومة هنا في اليمن الذي نستعر فيه بنيران الحرمان والمعاناة والحروب؟! كيف لي أن أؤسس لاحتمالات متعددة لحيز واحد؟ فقط وحده البكاء من يوقظ الناس فيه، والكآبة والأحزان والآهات من تسامرهم.. إذن، فأي توصيف يتناسب مع إرجاف الرجل وتصريحاته التي تتنافى جملة وتفصيلاً مع سياقات الواقع وما يعتمل فيه من خصومات وصراعات وحروب ومجاعات؟ وأي عنوان يصلح لفضح افتراءات رجل يبني حديثه على خرافات وأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان؟!
يا الله.. كلما التمست وصفاً نهرني العقل، ونهتني عنه المشاعر والعواطف لعجزه وتقصيره عن الوفاء بالغرض. هي الصدفة وحدها من ابتهج بالوصف والعنوان معاً، ذلك حين وقفت مُكرهاً بين الصفوف المتراصة لأستمع إلى حوار ساخن بين اثنين من ضحايا منجزات الحكومة، ممن يفترشون الطرقات ويلتحفون السماء، حين صرخ أحدهم في وجه صاحبه بعدما يئس من إقناعه برأيه، بقوله: (اكُرُظه يا مُحُمد) بضم الميم والحاء.. وهو مثل شعبي شائع يُطلق على من تحدثه طويلاً وتشرح له ولا يفهم عنك شيئاً، فرأيت في هذا المثل بحرفيته أكثر مناسبة ليكون عنواناً وتوصيفاً لرجل يصرخ الشعب بحرثه ونسله في وجهه (أن هلكنا) بسبب عجزك وفشل حكومتك، وهو متشبث بوهمه على أنه القوي، قاهر المعجزات وصانع المنجزات، الذي لا يشبهه سوى شخصية «علي سرجي»، الخرافية، التي قتلت ألفاً وأسرت ألفاً وأطلقت سراح ألف.
لا أدري أي واقع مأساوي ومعطل من الحياة كالذي نعيشه؟! وأي ظروف مادية وإنسانية ومعيشية واجتماعية أصعب وأسوأ من الظروف التي يعيشها الإنسان اليمني اليوم؟! وأي رعب وموت وجنون كالذي يطارده في الحارات والطرقات والشوارع وفي القرية والمدينة وفي كل مكان؟.. وأي.. وأي.. وأي؟ ومع ذلك، يظل الرجل موهوماً بقوته وفرادته وإنجازه، وكأن الشعب بكله أعمى وأصم وبدون إحساس.. لا أيها الواهم، هذا هو الواقع يرد عليك بلغته الشعبية البسيطة التي لا يعرف في خطابه سواها: (اكرُضُهْ يا مُحُمْد). أو (اكرظوه لا شعوب). ولا شك في أن الواقع أفصح منك لساناً وأصدق حقيقة، بل إنه الآية المعصومة من الخطأ، والإنجيل الصواب غير المحرف. فكيف يمكننا التشكيك فيه والتصديق بأقوال وأوهام تأتي من وراء جُدُر، أو تنبعث من بين سلاسل من الحديد.