د. صادق القاضي.
لكي تكون ثوريا عليك أن تجعل رأسك كله حنجرة، وتعبئ جسدك بالصراخ، وتنساق في موجات السعار الجماعي المحموم، وكحيوان سيرك مطيع عليك أن تتخلى عن إرادتك وذاتك، وتصدق كل شيء، وتمتثل لكل أمر، وتتحرك على إيقاع الحواة والأراجوزات والمدربين، أليس هذا ما كنت تفعله بالضبط؟!، أثارت حركاتك تصفيق الجمهور، لكنك لم تستلم شيئا من عائدات التذاكر، وعندما سقطت في حركة خطرة، أُلقى بك بعيدا لتنهش روحك الوحدة وجسدك الغرغرينا..!
أفهمك وأتفهمك ياصديقي، حياتك كانت تاريخاً للمعاناة، أنت ربيب البؤس، وسليل الحرمان، ولأنك لم تكن تمتلك شيئا سوى الوجع، دخلت الثورة بالكثير من الألم، والقليل من العقل، واندفعتَ ككتلة هائلة من الغضب، وموجة عارمة من السخط.. وانفجرْتَ دفعةً واحدة، بكل احتقانات القهر ومكبوتات الحنين..!
في الواقع أنت لم تكن تثور بل تثأر، لم تكن تتمرد بل تدمر، لم تكن تتأمل بل تتألم، وتهيأ لك على وهج حماسك الثوري أنك كسرت حاجز الخوف، فيما لم تكسر سوى الحواجز الهشة بين النبل والسذاجة، والثقة والغفلة.. تلك الثورة التي أشعلتها بوجعك الكبير، خمدت قبل نظراتك الأخيرة على وطن صار أبعد منالا، وبلد لم يعد يليق بغير الشفقة.. !!
قلت لي: إنه الربيع، ثورة الفراشات تنتج فرحا، وثورة الزهور تنتج عطرا، وثورة العصافير تجلب المطر.. لكنها لم تكن ثورة الشوق، وغاب عن نواياك الحسنة أنها ثورة المشائخ تنتج قبيلة، وثورة العسكر تنتج معتقلا، وثورة الكهنة تنتج محكمة تفتيش..!
قلت لك مرارا إن الغابة لا تثور، ولكنها تضطر أحيانا إلى إعادة توزيع مراكز القوى المفترسة، لكنك أصررت بشكل عجيب على أن المعركة تجري بين حق وباطل وملائكة وشياطين، وأن بعض الشياطين أصبحوا فجأة ملائكة وانضموا إليك، فيما ضموك أو انضممت إليهم، بعيدا عن الثورة، قريبا من الثأر، والحسابات القديمة للشياطين..
كانت حساباتك العامة تختلف عن حساباتهم الخاصة، أولئك الذين خرجت تهتف من أجل إسقاطهم بحماس، كانت الثورة بالنسبة لك فرصة العمر المهدور لاسترداد إنسانيك المستلبة، والثأر لأحلامك الموءودة في العقود العجاف، من الجلادين والطغاة والنخاسين الذين كانت الثورة بالنسبة لهم فرصة ذهبية لترميم تجاعيدهم المهترئة، وتصفير عداداتهم المثقلة بالخطايا في حقك وحق هذا الوطن الذي لم يعد يليق سوى بالشفقة..
أنت لم تكن تؤدي دورا نبيلا، ولا في مهمة مقدسة، كما كنت تتوهم ببراءة، ولأن الغضب وحده لا يصنع الثورة، ها أنت الآن ضحية عبثية، لطلقة أصابتك من الخلف، وربما تشعر بحجم فاجعتك في الثورة التي نبذتك كوجه "يهوذا" أنت الذي انخرطت فيها بقلب "يسوع"..!...