ذات عصر، خارج التاريخ، كانت نار الصواعق سلاحاً حصرياً بالآلهة، وعندما خلقت الآلهة الحيوانات على الأرض، وزعت بينها الأسلحة التي تمكنها من طلب الرزق والدفاع عن نفسها، هذا ناب ومخلب، وهذا قرن، وهذا منقار، وهذا سمّ.. وعندما وصل دور الإنسان كانت الأسلحة قد نفدت، ويبدو أن الآلهة لم تعبأ بهذا المخلوق العاري الحافي الأعزل..! «بروميثيوس» فقط شعر بالشفقة، فقام بسرقة نار الآلهة، وسلَّمها للبشر، وبهذه النار تفوَّق البشر على مختلف الحيوانات الأخرى، ما زال «بروميثيوس» صديق الإنسان في الميثيولوجيا اليونانية ينال عقابه السرمدي الفظيع الذي حكمت به عليه الآلهة، جراء تلك السرقة المدهشة..!
منذ ذلك الزمن، أو منذ البدء، والنار تيمة بشرية مقدَّسة، بحمرتها الخلاَّقة وأبعادها الرمزية، المتعلقة بالآلهة في عقائد كثيرة كالمجوسية، كما أنها وسيلة للتطهير الروحي، بفصل الروح العلوية عن الجسد السفلي، هكذا يتم حرق الموتى لإعادتهم إلى خالص نقائهم الروحي، وللحمرة صِلاتها الرمزية بالماورائيات، في القرون الوسطى كان يرمز بالكبريت الأحمر للذات الإلهية، في عقائد كثيرة، وللقطب الصوفي الكبير «أحمد بن علوان» كتاب بهذا الاسم، والبعد الرمزي ذاته.
للحمرة أكثر من وجه ودلالة، ليست منافقة فقط، ولكنها طبقية أيضاً، تلبس لكلِّ فئة دلالة مختلفة، بذلك يكون للسياق الاقتصادي دوره الحاسم في تحديد دلالة الحمرة، وفي حين يكون الحديث عن الفقراء، نجد (السنة الحمراء)، وهي السنة العاجفة بالغة القحط والجدب، في حين يدل (الأحمران) على الذهب والزعفران عندما يكون الحديث مخملياً، والفرق واضح بين (أهل الأسودين) الماء والتمر، و(أهل الأحمرين) اللحم والخمر.
وللحمرة عراقتها حين تضمخ أنساب القبائل، وأحساب الآثار، بنو الأحمر علم لأسرة يمنية عريقة آفلة، حكمت اليمن لقرون ولم تترك وراءها حجراً على حجر، ولا شيء له صلة بالحجر سوى ذكريات عن أسلوب حياة ينتمي إلى العصر الحجري، مقارنة للعصر الذهبي لبني الأحمر في الأندلس، ومدينة الحمراء التي كانت بلاط أمرائهم في غرناطة، والتي ما تزال تمثِّل أعجوبة خالدة في الفن المعماري الإسلامي، بناها محمد بن الأحمر (ت: 635 هـ)، فخلّدت بتألق تاريخاً مجيداً، وما زال قصر الحمراء يتيه كأسوده الحجرية، جلالاً وجمالاً، فتهوي إليه أفئدة السياح والفنانين والمؤرخين من كلِّ فجٍّ عميق .