كثيرٌ هم الأغبياء الذين لا يدركون صعوبة اللحظة الزمنية الحالية، وما يحفها من مخاطر وظروف وأزمات تتفاقم كل يوم وتتزايد. هؤلاء الأغبياء من ساسة ومثقفين وصحفيين وقادة عسكريين وجماعات دينية وأحزاب سياسية، يبايعون شهواتهم وغرورهم، ويحدقون تحت أقدامهم بحثاً عن التافه والغوغاء، ويسيرون بالوطن إلى الهاوية.
ربما وحده هو الرئيس مَن يحس أكثر بطبيعة المأزق الذي يشهده الوطن، ولعل عقله من شدة ما يعانيه من تفكير وتقدير للأمور قد لا يستطيع أن يوازن بين الضرورة والمباح والمحذور. خاصة وهو الأدرى والأخبر بتفاصيل ما يجري في الواقع. فثمة حوار وطني كلفته باهظة، ولكن لا يؤمن بنجاحه وحوافزه الزائفة أحد من الناس. وثمة لجنة لإعداد الدستور لا منظر لها ولا مخبر، سوى دوي وسائل الإعلام وتوصيفها بالذكاء والصدق والنزاهة والشرف، وهي لا تمتلك الخبرة والعبقرية. وحكومة فاشلة بامتياز وبإجماع الأمة بمختلف مذاهبها وتياراتها السياسية والاجتماعية. حكومة تجرؤ على الحديث عن النزاهة والكرامة والعزة والإنجاز وهي من أفقدت الإنسان اليمني كل هذه القيم والمعاني. ومجلس نواب عاثر أصيب بالروماتيزم فاكتفى في نزاله بتجويد الصوت وتنويع الصراخ. بل إن حكايته تشبه حكاية القصير الذي يموت جوعاً وطعامه في الشباك لا يقدر على الوصول إليه. وعراك بينهما –أي بين الحكومة ومجلس النواب- يشبه عراك ضرتين أمام زوج مشلول وضعيف ولا رأي له. وأزمة بترول بلغت درجة كبيرة من القبح والألم، وتثير الغضب والاشمئزاز من الحكومة والدولة برمتها؛ لتجاوزها حد المنطق والعقل والأخلاق،. وعجز مالي ينذر بعقاب جماعي ويقود إلى خراب (مالطة) وتحولها إلى صحراء قاحلة تحكمها الذئاب والوحوش المسعورة. وحرب في الجنوب ضد أشباح تنازل الجيش والدولة وتفقدهما كل يوم الكبرياء وتورثهما تكاليف الهوان والعجز. وحرب في الشمال بين قطبين أحدهما بلغ من القوة ما يثير الانتباه والشك والخوف من زحفه اللامعقول على مساحة أوسع من الجغرافيا، وهو ما قد يفقد سعادة الرئيس المجد المؤقت. بينما القطب الآخر معجون بخميرة الاستفزاز والتربص والمؤامرة، وهو يمن عليه بإيصاله إلى العرش ويتسلط عليه في كل صغيرة وكبيرة، بفضل وبركة القائد الثائر وراسخ الأقدام في القصر والجيش والحكومة.
إن سعادة الرئيس اليوم في مأزق حقيقي، فالأحداث والتحولات والانتهازات التي تمارس تحت سمعه وبصره تجعلنا نحس بجسامة آلامه ومعاناته، فلا هو قادر على إقالة الحكومة خشية تهديد جماعة متمكنة من تلابيب الوضع القائم، وتهديدها له بالنزول إلى الشارع وتعطيل الحياة. وليست له طاقة لإجبارها على الاستقامة وتخفيف معاناة الناس في مختلف مجالات الحياة.
كما أننا نشعر بعذابات الرئيس وإرهاقه نتيجة محاولاته غير المنتهية للمواءمة بين جماعات متصارعة وأقطاب متنافسة لا تؤمن إلا بالبشاعات والتفاهات. وأكثر ما نخشاه هو استسلام الرجل وإعلان عجزه عن قيادة المرحلة؛ بسبب جهالة واستفزاز من يدور حوله في فلك السلطة، أو مغادرته للقصر في حال شعوره باقتراب موعد الانفجار الكبير براءة للذمة والضمير.
بل إنني على يقين تام بأن الرئيس لم يعد في إمكانه اليوم النظر إلى المستقبل والحديث عن أحلام الشعب وآماله، وأن أقصى ما في وسع ذكائه ودهائه وتحالفه، هو كيف يستطيع أن يحافظ على الواقع الراهن كما هو بعلله ومآسيه وعفونته. خاصة وأن بؤر الصراع تتسع ومصادر المؤامرات والحقارات تتعدد على نحو فاضح وغير طبيعي.
ولعل ما يحدث في (عمران) من حرب بين جماعتين متطرفتين، هو أكثر مصادر مأزق الرجل؛ لحساسية الموقف وتداخله وضبابية رؤيته، واحتمالية امتداد رقعة الحرب إلى العاصمة صنعاء، فكل طرف يعد العدة ويوقن أن حرب (عمران) هي الخيط الفاصل بين الجنة والنار بالنسبة لهما، فهزيمة الإخوان في هذه المعركة هو إعلان نهاية الجماعة مطلقاً، وهزيمة الحوثيين تعني ضعف مشروعهم وتراجعه وعجزه عن التمدد بعد اليوم، لأن انتصار الإخوان هو حافز قوي لهم ولبقية الخصوم التقليديين لجماعة الحوثي.
إن غضب الشارع اليمني المتزايد يوماً عن يوم بفعل الأزمات التي تسحقه، وكذلك عنف الجماعات المتطرفة في الجنوب والشمال معا، بالإضافة إلى فشل الحكومة وعجزها عن تحقيق أبسط مقومات الاستقرار، وغيرها من الآلام النازلة على الواقع اليمني الآني. كل هذه تدع الرئيس في مأزق حقيقي يحد من قدرته على مواجهة عواقب هذه الأحداث والنوازل. وأخشى ما أخشاه مرة ثانية أن تقوده إلى الانهزام أو الفرار أو اتخاذ قرارات غير مدروسة تفترس ما تبقى من حياة الإنسان اليمني. وهو ما يعني وجوب الوقوف مع الرئيس في هذه اللحظة الحرجة والشد من أزره لتجاوز المرحلة وظروفها الصعبة والمأساوية.