وسط غياب وظائف مؤسسات الدولة أجدني مشدوداً إلى من يرى في إصلاح الفرد لنفسه البديل السحري لإصلاح أحوال المجتمع دونما إغفال لحقيقة أن أي شعب يتطلع للنهوض الحضاري لا يمكن له أن يحقق طموحاته دون شروط أبرزها حضور إحدى سلطتين:
* السلطة الأخلاقية والسلطة القانونية.. وكلاهما تحول بين استسلام البعض للهوى الشخصي الذي يضرب كل شيء جميل ومنضبط، فيصير الانفلات هو سيد الموقف وتكون الفوضى هي قوة الدفع الكبيرة باتجاه الأنفاق المظلمة..
* ولو أراد أحدنا الإجابة عن السؤال الحائر لماذا نحن متخلفون رغم العمق الحضاري ورغم أكثر من نصف قرن على الثورة الأم 26 سبتمبر؟ فالإجابة كما أجزم تتلخص في أننا أهدرنا السلطتين.. فلا السلطة الأخلاقية المتمثلة في منظومة القيم الدينية والوطنية والأعراف الإيجابية للقبيلة الأصيلة حضرت ولا سلطة الدستور ومجموعة القوانين واللوائح نفذت.. والنتيجة ما نعيشه من الأوضاع التي نشكوها دون أن نضع أصابعنا على الجرح..
* الكارثة أن كثيرنا صار يُعلي من شأن الفاسد، وصار المجتمع يقبل بثقافة لا تكتفي بإهمال موروثنا من القيم الحضارية والإنسانية والأخلاقية فحسب بل ويعبر عن الإعجاب المنافق بأشخاص يستحقون المحاكمة والسجن.. وهو ذات الموقف من قوانين محبوسة في إدراج المكاتب والدواليب تنتهكها الأتربة وخيوط العنكبوت.
* توضيحاً للصورة فإن مجتمعنا في الغالب الأعم يرى في مخالفة أشخاص للقانون بأنها علامة نفوذ ووجاهة اجتماعية وحضور في مفاصل الدولة، بل يرى من يتطاول في بنيان عمارات ومعارض سياراته علامة شطارة وذكاء..
* هذه الثقافة متوغلة داخل الأسرة الواحدة.. ذات نظرة قاصرة تعلي من شأن ما يتصادم مع صحيح الدين والأخلاق والرزق الحلال.. فالذي يعرف من أين تؤكل كل مفاصل البقرة الحلوب هو ذكي وأحمر عين و " رأس " رغم أن الذي يحصده ويكتنزه من السُحت وسرقت المال العام.
* على النقيض فإن الذي لا تمتد يده سوى لما هو قانوني إنسان فاشل في نظر هؤلاء بدليل أنه ما يزال في بيوت الإيجار ولم يزوج الأولاد والمدرسة والمستشفى الحكومي ملاذه العاجز..
*وأمام هذه المفارقة يصح توجيه اللوم إلى دولة رخوة لا تملك أي إرادة لنصب ميزان العدالة وتطبيق القانون.. ومؤسسات أوكلت إليها مهام التوجيه و التنوير والتوعية، فإذا هي فاشلة إما ببركات القيادي العاجز أو الفاسدة والنتيجة واحدة..!