قبل عقد القران الكاثولوكي غير المتكافئ بين الحكام، ورجال الدين المسلمين، وقبل أن يصبح الاشتغال بالدين مهنة أواخر الدولة الأموية، لم يكن الإسلام/ الدين يعترف لرجال علم الدين بأية سلطة دينية، غير سلطة الموعظة الحسنة، وتوضيح الغامض، وتفسير أو شرح ما في القرآن والحديث من أحكام.. وحتى هذه الوظيفة لم تظهر إلا في وقت متأخر، إذ أن القرآن نزل بلسان العرب، وكذلك كان الحديث بلسان أفصح العرب.
كان العرب يفهمون ما في القرآن والحديث دون وسائط، وكانت الخطابة في المسجد والإمامة في الصلاة يقوم بها أي واحد من الصحابة، وكان الأمراء يخطبون ويفتون ويعظون مثلهم مثل سائر الناس ذوي المعرفة.. وابتداء من أواخر الدولة الأموية برزت أولى مظاهر تنظيم رجال علم الدين في فئة مهنية، ومُنحوا سلطات دينية، ودنيوية أيضاً، بحكم حاجة الحكام لهم لتبرير أفعالهم، وكقنوات يتواصل من خلالها الحكام مع "الرعية".
كان الحكام الأمويون يعتمدون على فئة تسمى "الكُتّاب"، وهم غير عرب بل فرس غالباً، مطلعين على الآداب السلطانية، لكنهم تعلموا وتفقهوا في الدين ولغة العرب وترجموا إلى اللغة العربية كتب الآداب السلطانية من اللغة الفارسية، ويقدمون للحكام النصيحة والمشورة وتقاليد تدبير شئون الحكم وسياسة "الرعية".
وفي فترة لاحقة حلَّ رجال علم الدين محل هؤلاء "الكُتَّاب" وتصاعد دورهم حتى صاروا "العلماء" مقابل "الأمرا"، واعتمدوا على الموروث العربي والموروث الفارسي القديم لشرعنة هذا الدور، وتكوين هذه الطبقة الدينية، وتنظيمها في هيئة تقوم بوظائف دينية وسياسية واجتماعية، ومن الموروث الفارسي القديم أخذوا مثلاً ما يتعلق بالاتحاد بين الدين والسياسة أو الحكم، وهو موروث فارسي محض، فأول من أقام اتحاداً بين الدين والسياسة هو "أردشير" في القرن الثالث قبل الميلاد، أي قبل ظهور الإسلام بنحو ألف سنة، بينما الإسلام لا يعترف بهذا الاتحاد، ولا يعترف لرجال الدين بأية سلطة غير سلطة الموعظة الحسنة وبيان الغامض أو المشْكِل في القرآن والحديث.
هذه الأيام يقول رجال دين، إنه لا توجد طبقة رجال دين في الإسلام موازية لطبقة رجال الدين في المسيحية التي تحلِّل وتحرِّم باسم السماء، وتتدخَّل في كلِّ صغيرة وكبيرة، بينما طبقة رجال الدين في المسيحية خف سلطانها، وطبقة رجال علم الدين المسلمين زاد نفوذها.. لم يعد رجال الدين المسيحيون يراقبون الضمائر ولا كتب الكتَّاب مثلاً، بينما عندنا يفعلون، وباسم الله.